الحج عبادة .. ليس كسائر العبادات .. فلا نظير له من الطاعات .. ولا مشابه له في القربات .. فهو عبادة في عبادات .. جَمَع ألواناً من الطاعات .. عبادات قلبية .. من توكل .. وخشوع .. وصبر.. وإنابة .. واستجابة ..
وعبادات جسدية .. من طواف .. وسعي .. ورمي .. ونحر .. وعبادات مالية .. من نفقة .. وزادٍ .. وراحلة .. وتكلفة .. وعبادات قولية من دعاء ٍ.. وذكرٍ.. وتلبيةٍ ..
وأعظم من ذلك أن الحاج في عبادة .. منذ خروجه من بيته .. وأثناء تنقله في المشاعر .. وإقامته للشعائر .. حتى وهو في طريق رجوعه ..
إلى أن يبلغ منهى قصده .. وربوع بلده .. لا ينقطع أجره .. إن مشى أو قعد .. وإن قام أو رقد .. وإن تكلم أو سكت .. وفي سائر أحواله .. وكل أعماله ..
فالحج .. رمزٌ للعبودية التي أمر الله خليله أن يُطهِّر البيت من أجله .. وتجديدٌ للتوحيد الذي أسَّس عليه إبراهيم قواعده .. فمنذ أن أذَّن إبراهيم عليه السلام في الناس به ..
والأفئدة الطاهرة تهوي إلى أرض الحرم .. والأجيال تتابع تعظيماً لتلك البقاع المشرفة ..
والوفود تتقاطر .. والقوافل تتلاحق .. إلى تلك الرحاب المكرمة .. ممتدة عبر العصور .. متواصلة طول الدهور .. آتية من كل فج عميق .. قادمة من أقصى مكان سحيق .. رجالاً على أقدامهم .. وركباناً على دوابهم ..
يقطعون الفيافي والقفار .. ويمخرون عباب البحار .. ويطيرون من كل مطار .. وافدةٌٌ إلى الله فوج إثر فوج .. لهم بالذكر ضجيج .. وبالتلبية عجيج .. في بكاءٍ ونشيج ..
يسيرون من أقطارها وفجاجها رجـالاً وركباناً ولله أسلموا
شفوا تلك الرؤس تواضعاً لعزة من تعنوا له الوجوه وتُسلم
فارقوا الأهل والأوطان رغبة ولم تُثنهم لـذَّاتهم والتـنعُّمِ
استجابة لرب البرية .. و تمسك بالسنة النبوية.. وتتبع للأثر .. واقتداء بخير البشر ..
هناك .. حول الكعبة المشرفة.. بجوار البيت العتيق .. مهوى أفئدتهم .. ومثابة سفرهم .. وقبلتهم أحياءً وأمواتاً .. تتزاحم لأقدام التائبة .. وتتلاصق الأجساد الطاهرة .. وتجتمع القلوب الخاشعة .. وتتشابك الدموع الذارفة .. وتخلط أصوات الألسن الذاكرة ..
فيا حبذا الموسم من موفد وحبذا الكعبة من مشهد
وحبذا الذين يزاحموننا عند الحجر الأسود
هناك .. تتحطم جميع الحواجز .. وتذوب كل الفوارق .. فلا عصبيات قبلية .. ولا نعرات عرقية .. ولا نظرات حزبية .. بل رباط أخويٌّ وثيق .. وحبٌ إيمانيٌ عميق ..
حين يضمهم صعيدٌ واحد .. ويلفهم رداء واحد .. ويجمعهم دين واحد ..
إن يختلف نسبٌ يؤلف بيننا دينٌ أقمناه مقام الوالد
وفي عرفات .. تتنزل الرحمات .. وتهب النفحات .. وتغفر السيئات .. يرضى الرحمن .. ويباهي بهم ملائكة السماء .. ويغتاظ الشيطان .. لما يرى من الرحمة والصفاء ..
من عاش .. ينصرف .. بحج مبرور .. وذنب مغفور .. وتجارةٌ لا تبور .. في القلب سرور .. وفي الوجه نور .. ومن مات .. يبعث .. على حاله ملبياً ..