لم أشك أبدًا في حتمية ما حصل في غزة, منذ وصول حماس للسلطة عبر صناديق الديمقراطية العربية المفخخة, سواء في فصول الحصار الذي ضرب عليها, أو ما تلاه من إشاعة القتل وإشعال النار فيها, فما ختمت به فصول ذلك الحصار من إرهاب ودمار؛ كان (مسألة وقت), تنتظر المناخ الإسرائيلي المناسب, والظرف الدولي المواتي, والفرصة العربية السانحة, وقد توافر كل ذلك بما لم يحصل من قبل, وكأن الجميع كانوا على موعد لحضور طقس يهودي سادي على "فطيرة صهيون" المعجونة بالدم والإثم, احتفالًا بذبح (المشروع الإسلامي) الفلسطيني "المرعب" لكل الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية, وليتم ذلك الذبح على عتبة "عدالة" الشرعية الدولية الظالمة.
لانشك في أن هذا المشروع سينجح يومًا, ليس في إقامة حكومة إسلامية فلسطينية فقط؛ بل في إقامة خلافة إسلامية عالمية كما صحت بذلك الأحاديث, ولكن المشروع السياسي الفلسطيني الحالي, ظن البعض أنه سيعفينا من مسئولية الجهاد الجاد لتحرير الأرض المقدسة كلها, عندما تقيم السياسة في فلسطين في بضع سنين ما لم تقمه الجهاد في كل العالم الإسلامي عبر ما مضى من الأعوام الثمانين! وهو وهم حالم لا ينبغي لأمة الجهاد والاستشهاد أن تتعامل بمقتضاه مع أكبر قضاياها المصيرية, فلازال الطريق وعرًا وطويلًا, ومازال صفنا في السير الجماعي فيه مفرقًا وهزيلًا.
ومع ذلك سايرنا أماني النفس, وجارينا خداع الناس, فبعضنا منى نفسه أن تتكرم "الشرعية" الدولية بترتيب الأوضاع القانونية لقيام حكومة السلطة الإسلامية على الربوع الغزاوية, ريثما يتم تطهير باقي الأراضي الفلسطينية من العصابات اليهودية!! وآخرون منوا الناس بتلبية الأنظمة العربية نداءات الغيورين بفتح الباب لجموع المجاهدين, للانضمام لإخوانهم الحمساويين بعد تأسيسهم نقطة الانطلاق لتحرير باقي فلسطين, أو على الأقل السماح بمرور المعونات المادية والمعنوية للحكومة "المنتخبة" بمعايير ديمقراطية على أسس إسلامية! وراح أقوام يطلقون العنان لأحلام القبول اليهودي بالجوار الجديد, إذا استجاب لمبادرات التهدئة, وألغى مناورات الحشد والتعبئة!
لقد حلم الكثيرون بقيام الكيان الإسلامي واستمراره في فلسطين, موفرًا عليهم عبء المسئولية التاريخية في التصدي الجماعي الإسلامي لمشروعات الدولة اليهودية, ولكن كيف؟
فلسطين؟؟ كيان (إسلامي جهادي) "رسمي" في فلسطين؟! ... وهل النظام الدولي الظالم الذي لم يسمح بكيان "مسالم" في أقصى الأرض الإسلامية في الشيشان أو أفغانستان أو البوسنة؛ كان سيسمح بكيان إسلامي عربي "مقاوم" في أرض الأقصى؟!...أم هل كان سيوافق النظام العربي الراهن على إقامة ذلك النظام المرابط على أرض الرباط؟! ...وهو الذي يرتهن بقاء أكثر حكوماته على محاربة المشروع الإسلامي بكل صوره, أم هل كان متوقعًا من الدولة العبرية التي لم تقبل بمبادرات "الحل السلمي" العربي العلماني, أن تتعايش مع "كيان جهادي إسلامي يرفض مبدأ الاعتراف بها, أو التنازل عن إزالتها؟!".
كان حريًّا بنا أن نخرج من تلك الأوهام قليلًا, حتى نعيش الحقيقة كما هي, ليمكننا التعامل معها كما هي, أما الآن؛ فإن دخان نار المحرقة القائمة قد يعمينا أو يلهينا مرة أخرى عن حقيقة المعركة الطويلة القادمة, التي تتحالف فيها قوى الباطل من الكفار والمنافقين في حائط صد ضد مشروع العودة, لا لفلسطين 48 فحسب؛ بل لكل أرض إسلامية سلبتها يد يهودية أو نصرانية أو هندوسية أو مجوسية أو علمانية عميلة لأي من هؤلاء, لابد من الآن أن نتوقع ما ينجلي عنه الغبار, بعد أن يخمد الدخان وتنطفئ النار, حتى نتعامل بواقعية حقيقية لا واقعية وهمية مع أشد الناس عداوة للذين آمنوا:
- فبعد أن تخمد نار المحرقة, نتوقع أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه, من الركود والخمود عند فريق, ومن الخيانة والجحود عند آخرين من المتاجرين بالقضية, لأن مواقف التبعية, ستظل هي الظل الذي يسير تحته المنتفعون, والسقف الذي يتحرك تحته المنافقون, وستسمعون ـ أيها المسلمون ـ عن المتحدثين عن ضرورة الثبات على "الواقعية" السياسية, وحتمية التعاطي مع النوايا السلمية, والمبادرات التاريخية التي لا حل بدونها ولا حد لنفعها, وستستثمر دماء الشهداء لأجل تسويغ الفصل الجديد من الاستسلام الجماعي بدعوى العجز الجماعي عن الوقوف بوجه يهود.
- وبعد أن تخمد نار المحرقة؛ ستجدون (النظام الدولي) القائم على تقنين الظلم, يجر أطرافًا جديدة إلى طاولة المفاوضات مع المعتدين علنيًّا, كما يحصل بعد كل مصيبة تحل بالفلسطينيين, وذلك بعد أن يعيد الأطراف القديمة إليها راغمة بالرغم من إفلاسها وظهور عوارها, ولذلك علينا من الآن وضع الأجيال القادمة أمام حقيقة هذا النظام الدولي المتآمر منذ أكثر من ستين عامًا على أمتنا وحدها دون بقية الأمم" المتحدة" علينا.
- بعد ذلك الخمود سيعود الجمود المقصود لموقف (النظام العربي), باستثناء الحراك نحو مزيد من التضييع والتمييع الممارس باسم التطبيع, وكأن شيئًا لم يكن, وكأن ذاكرة الأمة عليها أن تزيل آثار العدوان بمزيد من الغفلة والنسيان لما يرتكبه كل الأعداء بحقها, وذلك يحتم على النخب الصادقة في الأمة ألا تتوقف عن فضح المفضوحين من المسئولين عن إدارة هذا النظام العربي, الذي فقد حميته العربية, بعد أن تنكر لهويته الإسلامية.
- وبعد خمود نار المحرقة, سيعود اللاعبون إلى اللعب بالشعوب العربية, بدءًا بضرورة احترام مقررات الشرعية الدولية, ومرورًا بأهمية تفعيل نتائج القمم العربية, وانتهاء بحتمية احترام الاتفاقات الرسمية مع دولة الاحتلال الصهيونية, وهنا لابد من توعية الشعوب بحصيلة الحصاد المر لهذه المقررات وتلك المؤتمرات والاتفاقات التي كان الواحد منها يكفي لنزع الشرعية عن المتورطين فيها والمتشبثين بها.
- وبعد خمود تلك النار, ستنفتح شهية المنافقين والكفار والفجار لمزيد من الاتجار بدماء الشرفاء من الشهداء, بالدعوة للعودة إلى"وحدة" الصف الفلسطيني تحت قيادته "الشرعية" العلمانية, لتخضع حماس لبأس الأرعن عباس أو من يأتي بعده, بضغوط دولية, ووساطات عربية، لا ترى لفلسطين مستقبلًا إلا تحت زعامة علمانية هزلية خائنة, وهنا لا يقبل ـ حتى من حماس ـ أن يعاد تلميع رموز الخيانة, بدعوى المصلحة القومية, أو اللحمة الوطنية, فكفى الأمة ما خدعت به عبر عقود طويلة من تقبيح الحسن, وتحسين القبيح باسم "توحيد الصف" في الاتجاه المعاكس للدين.
- بعد خمود نار المحرقة, سيظهر تشيع الشيعة لغير المسلمين, وخيانتهم للموحدين, وسيفضح الله مكرهم بهم وخداعهم لهم, عندما يظهر أن إيران لم تسلح إلا أحزابها في العراق ولبنان وأفغانستان واليمن, ولم تتحرك هي أو جناحها اللبناني الطائفي باسم فلسطين إلا لأغراض دعائية, وأهداف مذهبية, لا تعير أي اهتمام للقدس والأقصى, الذين استعاض الروافض عنهما بالكوفة وكربلاء, ومعركة الفصم بين قضية البيت المقدس في فلسطين, وبين المتاجرين بها والمتآمرين عليها من أدعياء محبة أهل البيت لاتزال متعددة الفصول, ومتباعدة الأصول, لكن لا ينبغي التواني عن تحصين فلسطين من تغلغل الرفض فيها بدعوى تخلي (دول الرفض) عنها.
- بعد خمود نار المحرقة سيتبين أن أكثر جماعاتنا الإسلامية, لم تغادر بعد ـ إلا قليلًا ـ مربع الحزبية الضيقة, بمصالحها المسبقة, ولهذا كان خذلان المجاهدين لاعتبارات حزبية في فلسطين, شبيها بالتخلي عن المجاهدين في العراق لنفس الاعتبارات, وهنا لابد لوضع حل لمشكلة تقسيم العالم الإسلامي حزبيًّا, بعد أن تم تقسيمه سياسيًّا وطائفيًّا, فقضايا المسلمين واحدة, وينبغي أن تكون يدهم فيها واحدة.
- سيظل اليهود يرددون ـ بعد خمود نار المحرقة ـ أنهم لم يقاتلوا الشعب الفلسطيني بل قاتلوا "الإرهابيين" في حماس, وسيصدق المخدوعون كلامهم مع الوقت بفعل عملاء اليهود في الإعلام العربي، كما صدقوا أن أمريكا جاءت إلى العراق لتحارب إرهاب صدام ثم إرهاب المجاهدين، وسيظل اليهود ـ مع أوليائهم ـ يعملون للمزيد من تصغير وتحقير القضية الفلسطينية التي اشتركوا في تحويلها من قضية إسلامية عالمية إلى قضية (صراع) بينهم وبين القومية العربية، ثم إلى قضية (نزاع) بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية, ثم الانتهاء بها إلى مجرد مشكلة أمنية على حدود الدولة اليهودية التي تحترم استقلالها معظم الدول العربية, ولهذا ينبغي التحسب للمزيد من هذا, وبذل المستطاع لإعادة القضية إلى صيغتها الإسلامية العالمية.
- بعد خمود نار المحرقة, ستنجلي الحقيقة الساطعة, بأن المجاهدين الصادقين هم طليعة الأمة, ولذلك تتداعى عليهم الأمم في جنبات الأرض الأربعة, ولم يكن المجاهدون في فلسطين وما حولها ـ ولن يكونوا ـ استثناءً من هذه الطليعة, فلسوف ينجلي أثر المعركة عن أن فيهم وفيمن يلتحق بهم الأمل ـ بعد الله ـ وقت التنكر للفداء والعطاء والعمل, فلهؤلاء المدافعين عن بوابات وحرمات الأمة دعاؤنا بالتأييد على أرض فلسطين كما أيد الله المجاهدين في أرض الرافدين, فالمعركة لازال في فصولها بقية على الأرضين, ورجاؤنا أن يلتحم الفريقان ويلتقيا بعد عبور النهر محققين خبر الصادق المصدوق«لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن أنتم شرقي النهر وهم غربيه»رواه البيهقي في مجمع الزوائد، (7/352) وقال: رجاله ثقات].
وليس على الله بعزيز أن يذل تحالف اليهود والمشركين والمنافقين في فلسطين, كما أذل تحالف الأمريكان في العراق وتحالف الناتو في أفغانستان، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39-40].