كما أن الحب في الحياة الزوجية يثمر علاقة ناجحة تقوم
على الاحترام والتعاون والتفاني. كذلك فإن الحب هو أساس النجاح في كل عمل
تؤديه. وحب العمل وليد الأمل، فلولا الأمل لما كان الحب.
رأى النبي موسى مزارعاً بيده مسحاته يعمل في الأرض بجد
ومثابرة، فأعجب به، لكن الله عز وجل قال: يا موسى، أتريد معرفة ما يحدث له
لو نزعت الأمل من قلبه؟ فقال موس: بلى أي رب. فلما نزع الله الأمل من قلبه
رمى المسحاة على الأرض متململاً تململ السقيم، وهم بالعودة إلى بيته. لكن
الله أعاد عليه الأمل فعاد يعمل بنفس المستوى الأول.
أن تحب العمل الذي في يديك، أولى من أن تعمل العمل
الذي تحب، فالأول يكون نتاجه متميزاًً، وأما الآخر فإنه يبقى كغيره. فمن
أحب عمله الذي هو فيه تفانى من اجله، وقد يؤثر الموت على أن يراه ميتاً.
وقد قيل: أن الخطوة الأولى في نجاح العمل هو الرغبة فيه، وأما الخطوة
الثانية فهي حبه.
إن الحب للمشروع هو الذي يجعله في تطور دائم، والحب
للدراسة يجعل الطموح قاب قوسين أو أدنى، والحب للوطن يجعل الروح رخيصة من
أجله، والحب للزوجة يجعل الحياة سعيدة وهادئة ومتميزة.
يقول الخبراء: «إذا استطاع إنسان ما أن يزاول عملاً
يحبه فإن احتمال تعبه من القيام به لا يتعدى واحداً من عشرة، حتى لو أشتغل
عشرين ساعة في اليوم، لأن العمل المحبوب هو أعظم سعادة في الحياة».
ويذكر في أحوال «الكسندر ديماس» أنه إذا كان يعمل في
خمس روايات في آن واحد، ومع ذلك كان لديه الوقت ليشترك في مبارزات، وليقابل
أصدقاءه، ويقرأ الكثير.
أما العالم الشهير «أديسون» كان يعمل ما يقارب
الـ18ساعة يومياً، ويقول لأبنائه: إن إنجاز شيء ما يكفل لنا الرضا الوحيد
الفعلي في الحياة. واشتهر أديسون بقدرته على الاستمرار في العمل دون أن
ينام أكثر من أربع ساعات. ويقول: إن النوم أشبه بالمخدِّر إذا تناولت منه
جرعة كبيرة مرة، فسوف تصبح مدمناً، وبذلك تفقد الوقت والحيوية والفرص.
وذكروا أنه ولشدة تفانيه لعمله: أن أحد أصدقائه زاره في ساعة متأخرة من
الليل بمختبره فرأى نوراً، فصعد السلالم ودخل عليه فوجده منكباً على بحث
معضلة عويصة، فقال: مرحباً توم.. ألا تنوي أن تؤوب إلى دارك؟ فقال أديسون:
كم هي الساعة الآن؟ فقال صاحبه: منتصف الليل. فقال أديسون: آه.. نعم لابد
من الأوبة إلى البيت فإني تزوجت اليوم.
وهذا « يوشع رويس» أستاذ جامعة هارفرد، وهو عالم
مشهور، قد بلغ الذروة في ميدانه العقلي لتركيزه الحاد، فكان يوماً يقف تحت
المطر المنهمر في ساحة الجامعة، وليس معه مظلة، ولم يكن عليه معطفه، وهو
منهمك في بحث مسألة عقلية تتعلق بما وراء المادة، مع طالب يرتدي ثياباً
خفيفة، يحاول عبثاً أن يفر من المطر، ولم يكن الأستاذ «رويس» يشعر بهطول
المطر الذي أغرقه.
أما علماء المسلمين فكان البعض منهم ينهمك في البحث عن
حل لمسألة حتى الصباح، ويقول: هذه لذتي. أما أحدهم الذي دعاه أصدقاؤه
العلماء لقضاء يوم الجمعة في البستان أجابهم: «الكتب بساتين العلماء» كما
قال النبي . ففي الوقت الذي قضاه الأصدقاء في البستان قام هو بتأليف كتاب
تُرجم إلى ثلاث لغات حتى الآن.
إن حب العمل كاف لأن تقيم حضارة تقدس العمل والعمال، وتقبّل كل يد لها لمسة فنية، وتحتفل بكل فكرة نهضت بمشروع على الأرض.
ومن حب العمل ينتج الإتقان، والجودة، والتميز. أليس كل ذلك يسمى النجاح؟
أما الكاتب المعاصر « ألبرتكوإيكو» الذي يعد من أفضل
الأساتذة الجامعيين في علم الإشارات البديلة لفقه اللغة القديم فلديه
طريقته الخاصة في التعبير عن حبه لعمله فيقول: أشعر بأنني مثل العاشق في
أداء عملي، ومن يكون عاشقاً عمله يكون مبدعاً أمام طلبة لابد لهم من تبادل
هذا العشق الثري مع صاحبه.
إن أحد أسباب نجاح الدول الصناعية وتقدمها وازدهارها
هو ترسيخ العمل كمفهوم مقدس لدى شعوبها وترسيخ هذا المفهوم في الأذهان
يجعلهم يحبون العمل المناط لهم.
ولنا عبرة في قصة ذلك المواطن الياباني الذي أسهم في
بناء نهضة اليابان، بل ساهم في نقل حضارة الغرب إلى أرض اليابان وهو «تاكيو
أو ساهيرا» وكل ذلك بفضل حبه لعمله ولدراسته وإخلاصه لوطنه، وسنذكر قصته
بالتفصيل لما لها من أهمية كبيرة قريبة من واقعنا المعاش، يقول «أوساهيرا»
المبعوث في ذلك من قبل حكومته للدراسة في جامعة هامبورج بألمانيا: « لو
أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني.. لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد
أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العملية، وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى
معمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتبا لأقرأها، وقرأت حتى عرفت
نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني بقيت أمام المحرك، أي كانت قوته، وكأنني
أقف أمام لغز لا يحل.
وذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع،كان ذلك
أول الشهر وكان معي راتبي، وجدت في المعرض محركا، قوة حصانين ثمنه يعادل
راتبي كله فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك وكان ثقيلا جدا وذهبت به إلى
حجرتي ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه وكأنني أنظر إلى تاج من
الجواهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا
لغيرت اتجاه تاريخ اليابان، وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من
قطع ذات أشكال وطبائع شتى، لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد
تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت
خطوة نحو سر الصناعة الأوروبية، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت
على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقا كثيرا وأتيت بصندوق أدوات العمل
ومضيت أعمل ورسمت منظر المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه ثم جعلت
أفككه، وأعطيت كل جزء رقماً، وشيئا فشيئا فككته كله، ثم أعدت تركيبه
وشغلته فاشتغل، عندها كاد قلبي يقف من الفرح، استغرقت العملية ثلاثة أيام،
كنت آكل في اليوم وجبة واحدة ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة
العمل.
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسنا ما فعلت الآن
لابد أختبرك، سآتيك بمحرك لا يعمل وعليك أن تفككه وتكشف موضع العطل وتفحصه،
وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت خلالها
مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي،
صنعتها بالمطرقة والمبرد، وديني يحترم العمل، فأنا أتعبد حين أعمل، بعد ذلك
قال لي: رئيس البعثة وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحياً، قال عليك
الآن أن تصنع القطع بنفسك ثم تركب منها محركا، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك
التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمنيوم، وبدلاً من أن أعد رسالة
دكتوراه، كما أراد مني أساتذتي الألمان، تحولت إلى عامل البس بدله زرقاء،
وأقف صاغرا إلى جانب عامل صهر المعادن..
كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت
الأكل مع أنني من أسرة ساموراي، ولكني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان
يهون كل شيء، قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل
خلالها ما بين عشر ساعات وخمس عشرة ساعة في اليوم، بعد انتهاء يوم من
العمل، كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل أراجع قواعد كل صناعة على
الطبيعة..
وعلم الميكادو بأمري، فأرسل لي من ماله الخاص خمسة
آلاف جنيه إنجليزي ذهب، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة وأدوات أخرى
وآلات وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد نفدت، فوضعت راتبي وكل
ما ادخرته، وعندما وصلنا إلى « ناكازاكي» قيل لي: أن الميكادو يريد أن
يراني قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملا.. استغرق
ذلك تسع سنوات وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في
اليابان قطعة قطعة حملناها إلى القصر ووضعناها في قاعة خاصة بنوها لنا
قريبا منه، وأدرناها، ودخل الميكادو وأبتسم وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها
في حياتي، هكذا استطعنا صناعة المحرك وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان
، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب، وبعد ذلك نمت
عشر ساعات كاملة لأول مرة في حياتي منذ خمس عشرة سنة..».
وأعتقد أن في هذه القصة عبر كثيرة فعلينا الاستفادة
منها عملياً وليس نظرياً، فالعبرة فيها أن الكل ساهم في صناعة هذا المحرك
المذكور من المسؤول عن البعثة إلى الميكادو عبر تفاعلهم وتفانيهم وحبهم
للعمل.